الحوار الوطني المصري- بين الطموحات والمحددات وفرص النجاح

المؤلف: د. عمرو هاشم ربيع08.12.2025
الحوار الوطني المصري- بين الطموحات والمحددات وفرص النجاح

لا تزال فعاليات "الحوار الوطني"، تلك المبادرة التي أطلقها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال مأدبة إفطار رمضانية قبل عامين تقريبًا (في عام 2022)، في مراحلها الأولية، وثمة جهود حثيثة تُبذل لتسريع وتيرتها. وقد انطلقت المناقشات الفعلية بين الخبراء وممثلي الأحزاب السياسية في الرابع عشر من شهر مايو/أيار عام 2023، أي بعد مرور حوالي عشرة أيام على حفل التدشين الرسمي.

إن تأخر انطلاق جلسات الحوار بين القوى السياسية وأصحاب الخبرة والاختصاص -والذي تجاوز العام- قد أثار شعورًا بالإحباط لدى العديد من المتابعين، بل ودفع البعض إلى اعتبار هذه الدعوة مجرد استعراض إعلامي لا طائل من ورائه. إلا أن الحقيقة، كما يبدو، هي أن هذه الفترة الزمنية المطولة كانت ضرورية للغاية من أجل الإعداد الدقيق والناجع لعدد من الجوانب الإجرائية الهامة، والتي كان من شأن إهمالها أن يؤدي إلى فشل كافة الجهود اللاحقة التي بُذلت خلال جلسات الإعداد، والتي وصلت إلى ثلاثة وعشرين جلسة.

محددات الحوار

قام مجلس أمناء الحوار بوضع مجموعة من المحددات التي شكلت إطارًا ناظمًا ومرجعيًا له، وهي:

  • أولاً: إن هذا الحوار ذو طابع سياسي بالأساس، على الرغم من أنه يتناول العديد من القضايا ذات الصلة بالاقتصاد والمجتمع.
  • ثانيًا: إنه حوار يجري بين السلطة والمعارضة، وبالتالي فإن أي تصور بأنه مجرد نقاش بين خبراء أو متخصصين لا يمت إلى الواقع بصلة، ويهدف إلى إبعاد الحوار عن الغايات المنشودة منه، وإبقاء المجال العام على ما هو عليه من جمود وانغلاق.
    ويرتبط بهذا المحدد أمر جوهري آخر، وهو أن المشاركين في الحوار يمثلون كافة الأطياف والمدارس الفكرية الموجودة في المجتمع (من اليمين واليسار والوسط، بالإضافة إلى التيار الإسلامي)، ولم يُستثنَ من المشاركة سوى جماعة الإخوان المسلمين كتنظيم سياسي.
  • ثالثًا: التأكيد الدائم على عدم المساس بالدستور الحالي للبلاد، وهو دستور عام 2012 الذي أُدخلت عليه تعديلات في عامي 2014 و2019. فعلى الرغم مما قد يراه البعض من أوجه قصور في هذا الدستور، إلا أنه ينبغي تنحية أي خلافات حوله جانبًا، وذلك حتى لا تتشتت الجهود والرؤى. فالقرار المتعلق بتعديل الدستور ليس حكرًا على مديري الحوار ولا المشاركين فيه، بل إن البرلمان يضطلع بالدور الرئيسي والحاسم في هذا الشأن. وبالتالي، فإن التعديلات النهائية التي قد تطرأ على الدستور (إذا ما أُدرجت في جدول الأعمال) قد لا تتفق بالضرورة مع أهواء جميع أطراف الحوار.
  • رابعًا: الابتعاد عن كل ما له صلة بالأمن القومي للبلاد، ويُقصد بذلك المعنى الضيق والمحدد للأمن القومي، وليس المعنى الواسع الذي من شأنه أن يقوض أركان الحوار برمتها. والمقصود هنا هو إبعاد مهام السياسة الخارجية المصرية عن دائرة النقاش.
  • خامسًا وأخيرًا: التأكيد على التقدير الكامل لكافة مؤسسات الدولة، ولا سيما البرلمان. فمن المعروف أن الحوار بين السلطة والمعارضة في أي نظام سياسي يمثل وظيفة معنوية منوطة بالبرلمان. وإيكال تلك المهمة إلى كيان جديد ومؤقت مثل "الحوار الوطني" يهدف إلى إنشاء هيئة أكثر جرأة من البرلمان في التعاطي مع قضايا المعارضة، دون أن يكون بديلاً عنه. والسبب في ذلك بسيط، وهو أن بعض مخرجات هذا الحوار قد تتطلب إقرار تشريعات من قِبل البرلمان حتى تدخل حيز التنفيذ.

إن تأخر انطلاق جلسات الحوار لما يزيد على عام قد أثار شعورًا بالإحباط لدى العديد من المتابعين، بل ودفع البعض إلى اعتبار هذه الدعوة مجرد استعراض إعلامي، إلا أن الحقيقة هي أن ذلك الوقت الطويل كان ضروريًا للإعداد المتقن للحوار

قضايا الحوار

تتنوع القضايا المطروحة على طاولة الحوار وتتشعب في ثلاثة محاور رئيسية: سياسي واقتصادي ومجتمعي. وتندرج ضمن هذه المحاور مجتمعةً تسع عشرة قضية محورية:

  • في المحور السياسي: يتم تناول قضايا النظام الانتخابي، وممارسة الحقوق السياسية، والحريات العامة وحقوق الإنسان، والأحزاب السياسية، والمجتمع المدني.
  • وفي المحور الاقتصادي: يُناقش المشاركون ملفات الدين العام، والاستثمارات، والبطالة، والصناعة، والزراعة، والسياحة.
  • وفي المحور المجتمعي: يتم التركيز على قضايا الصحة والتعليم والسكان والهوية الوطنية.

وتتفرع عن كل قضية من هذه القضايا مجموعة من الموضوعات الفرعية التي سيتم التطرق إليها خلال النقاش، ويصل عددها إجمالاً إلى حوالي مئة وثلاث عشرة قضية جانبية. فعلى سبيل المثال، تتفرع عن مناقشة النظام الانتخابي وممارسة الحقوق السياسية بحث شكل النظام الانتخابي لمجلسي النواب والشيوخ، وعدد أعضاء كل مجلس، وقضية التفرغ لعضوية المجلسين… وهكذا.

وعلى الرغم من هذا التنوع والشمول، فقد غابت بعض القضايا الهامة عن الحوار، والتي كان من الضروري إدراجها ضمن المناقشات. ومن الأمثلة على ذلك، بحث تفعيل مواد الدستور التي ألزمت الدولة بإصدار قوانين محددة في آجال معينة، وهي آجال انقضت بالفعل دون أن يتم إصدار تلك القوانين. ومن بين هذه القوانين، قانون العدالة الانتقالية، الذي تلتزم الدولة بإصداره -وفقًا للدستور- في عام 2015 كحد أقصى (المادة 241)، والذي يهدف إلى إنهاء حالة العداء والاحتقان بين القوى السياسية التي لم تشارك في أعمال عنف.

وكذلك التزام الدولة بسن قانون يمنع ندب القضاة إلى جهات غير قضائية (المادتان 186 و239)، وهو القانون الذي يحول دون استغلال القضاة وإفسادهم من خلال ندبهم إلى دواوين الحكومة للاشتغال بأعمال ذات طابع سياسي أو إداري في الغالب.

بالإضافة إلى ذلك، لم تفِ الحكومة بالتزاماتها الدستورية المنصوص عليها في المواد 18 و19 و21 و23، والتي تلزمها بإنفاق نسب محددة من الناتج القومي الإجمالي على قطاعات الصحة والتعليم والتعليم الجامعي والبحث العلمي، على الترتيب (3% و4% و2% و1%)، مع التعهد بزيادة هذه النسب تدريجيًا حتى تصل إلى المعدلات العالمية، وهو ما لم يتحقق حتى الآن.

وعلى أية حال، فإن النقاش حول القضايا المدرجة ضمن المحاور الثلاثة سيستمر خلال الأسابيع القادمة، ويبدو أن الموعد النهائي للانتهاء من هذه المناقشات هو بدء الإجراءات التحضيرية لانتخابات الرئاسة المقبلة، والتي من المقرر أن تُجرى قبل شهر يونيو/حزيران من عام 2024 بأربعة أشهر، وذلك وفقًا لما نصت عليه المادة 140 من الدستور.

مؤشرات النجاح

وهنا يبرز السؤال الختامي الذي يطرح نفسه بقوة: هل توجد مؤشرات تدل على إمكانية نجاح هذا الحوار الوطني؟

للإجابة على هذا السؤال، نعرض فيما يلي بعض الأفكار المحورية:

  • أولاً: ينبغي أن نضع في الاعتبار أن مخرجات الحوار الوطني ستتضمن مجموعة من التوصيات، بعضها لن يكون مكلفًا ماديًا بالنسبة للهيئات التنفيذية، في حين أن البعض الآخر قد يتطلب تخصيص ميزانيات كبيرة. ومما لا شك فيه أن غالبية المقترحات التي ستصدر في المحورين الاقتصادي والاجتماعي ستكون ذات طابع مكلف، وقد يتأخر تنفيذها بعض الوقت.

وعلى النقيض من ذلك، فإن القضايا ذات الطابع السياسي لن يكون أغلبها مكلفًا. فعلى سبيل المثال، وضع سياسة واضحة ومحددة بشأن الحبس الاحتياطي أو دعم مؤسسات المجتمع المدني، هي أمور لا تحتاج سوى إلى توافر الإرادة السياسية لتنفيذها. وقارن ذلك بإقرار خطة لزيادة الصادرات أو جذب المزيد من الاستثمارات أو تحسين أوضاع المعلمين، فكل هذه الأمور تتطلب أعباء مالية إضافية.

  • ثانيًا: إن التوصيات التي تحظى بتوافق واسع من جانب المشاركين في الحوار ستكون أقوى وأقرب إلى التنفيذ من تلك التي تخضع للتصويت وتثير خلافات في وجهات النظر. ففي الحالة الثانية، تُرفع الآراء المختلفة إلى رئيس الدولة ليقوم بالترجيح بينها، وهو أمر غير محبب لأي طرف، بمن فيهم الرئيس نفسه. ولنتأمل، على سبيل المثال، مناقشات النظام الانتخابي. أليس من الأجدى رفع تقرير إلى الرئيس يتضمن تفضيلاً لنظام انتخابي معين، بدلاً من تشتيت جهده بالحديث عن عدة أنظمة انتخابية يعرفها الرئيس جيدًا؟!
    وخلاصة القول هنا هي أنه كلما غاب التوافق وازدادت الانقسامات في الآراء، كلما تضاءلت فرص تغيير الأوضاع غير المرضية واستمرت على ما هي عليه.
  • ثالثًا: كلما ركزت مخرجات الحوار على الشأن الداخلي للدولة -وليس الشأن الخارجي- كلما ازدادت فرص تطبيقها على أرض الواقع. ولنتأمل، على سبيل المثال، سن قانون جديد للإدارة المحلية أو تأسيس مفوضية مستقلة للتعليم، وقارن ذلك بفتح أسواق جديدة لصادرات مصر أو جذب الاستثمارات الأجنبية أو معالجة مشكلة الديون الخارجية. فمن المؤكد أن المقترحات المتعلقة بالشأن المحلي ستكون أوفر حظًا من غيرها في التطبيق.
  • أخيرًا: هناك مخرجات تحظى باتفاق على مستوى المبدأ والتفاصيل في آن واحد، وهذه ستكون حظوظها في التنفيذ أكبر؛ مثل موضوع الحبس الاحتياطي والسياسات المحددة المطلوبة بشأنه. وفي المقابل، هناك مخرجات سيكون هناك اتفاق بشأنها على المبدأ، ولكن سيحدث خلاف حول التفاصيل؛ مثل سن قانون جديد للتعليم الجامعي أو تعميم تجربة التأمين الصحي الشامل أو توفير الأسمدة بأسعار مناسبة للفلاحين. هذا النوع من المخرجات سيستغرق بعض الوقت لتنفيذه بسبب الخلاف حول الآلية المناسبة. ثم هناك المخرجات التي قد يحدث بشأنها خلاف على المبدأ والتفاصيل معًا، كالخلاف على النظام الانتخابي، وهذه ستكون الأصعب على الإطلاق في التنفيذ.

وعلى أية حال، فإن تأكيد إدارة الحوار على أن مجلس أمنائه سيرفع مخرجات كل قضية يتم الانتهاء من مناقشتها -على حدة- إلى رئيس الدولة، يجعل من رد فعل السلطة التنفيذية -وربما التشريعية- على تلك المخرجات هو الاختبار الحقيقي لمدى نجاح تجربة الحوار برمتها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة